كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن إما ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح، أو بيانية على أنها حال كأنه قيل: هب لنا قرة أعين ثم فسرت القرة وبينت بقوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين وهو من قولهم رأيت منك أسدًا أي أنت أسد قال بعضهم:
نعم الإله على العباد كثيرة ** وأجلهن نجابة الأولاد

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.
الإمام المؤتم به إنسانًا كان يقتدى بقوله وفعله أو كتابًا أو غير ذلك محقًا كان أو مبطلًا كما في المفردات أي: اجعلنا بحيث يقتدي بنا أهل التقوى في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل.
وفي الإرشاد: والظاهر صدوره عنهم بطريق الانفراد وإن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء واجعلني للمتقين إمامًا ما خلا أنه حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير للقصد إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] وأبقى إمامًا على حاله ولم يقل أئمة وإعادة الموصول في المواضع السبعة مع كفاية ذكر الصلاة بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حدته له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لذلك وتوسط العاطف بين الصفة والموصوف لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.
قال القفال وجماعة من المفسرين: هذه الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب.
وعن عروة: أنه كان يدعو بأن يجعله الله ممن يحمل عنه العلم فاستجيب دعاؤه.
وأما الرياسة في الدنيا: فالسنة أن لا يتقلد الرجل شيئًا من القضاء والإمارة والفتوى والعرافة بانقياد قلب وارتضائه إلا أن يكره عليه بالوعيد الشديد وقد كان لم يقبلها الأوائل فكيف الأواخر.
يقول الفقير: إن قلت: قول الشيخ أبي مدين قدس سره آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الجاه قد يفسر فيه الخروج بالظهور فما معناه؟ قلت: إن الصديقين لما استكملوا مرتبة الاسم الباطن أحبوا أن يظهروا بمرتبة الاسم الظاهر ليكون لهم حصة من كمالات الأسماء الإلهية كلها وهذا المعنى لا يقتضي التقلد المعروف كأبناء الدنيا بل يكفي أن تنتظم بهم مصالح الدنيا بأي وجه كان، ولقد شاهدت من هذا أن شيخي الأجل الأكمل قدس سره رأى في بعض مكاشفاته أنه سيصير سلطانًا فلم يمض إلا قليل حتى استولى البغاة على القسطنطينية وحاصروا السلطان ومن يليه فلم تندفع الفتنة العامة إلا بتدبير حضرة الشيخ حيث دبر تدبيرًا بليغًا كوشف عنه فاستأصل الله البغاة وأعتق السلطان والمؤمنين جميعًا فمثل هذا هو الظهور بالاسم الظاهر وتمامه في كتابنا المسمى بتام الفيض هذا.
{أولئك} المتصفون بما فصل في حيز صلة الموصولات الثمانية من حيث اتصافهم به والمستجمون لهذه الخصال وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} الجزاء الغناء والكفاية والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
والغرف رفع الشيء أو تناوله يقال غرفت الماء والمرق والغرفة الدرجة العالية من المنازل لكل بناء مرتفع عال أي يثابون أعلى منازل الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى: {وَهُمْ في الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ} [سبأ: 37].
{بِمَا صَبَرُوا} ما مصدرية ولم يقيد الصبر بالمتعلق بل أطلق ليشيع في كل مصبور عليه.
والمعنى بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات ومن ذلك الوصم قال عليه السلام: «الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان» أي: فيكون الصوم ربع الإيمان وهو أي الصوم قهر لعدو الله فإن وسيلة الشيطان الشهوات وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب ولذلك قال عليه السلام: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع».
وفي الحديث: «إن في الجنة لغرفًا مبنية في الهواء لا علاقة من فوقها ولا عماد لها من تحتها لا يأتيها أهلها إلا شبه الطير لا ينالها إلا أهل البلاء» أي: الصابرون منهم.
وفي التأويلات النجمية: {أولئك يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} من مقام العندية في مقعد صدق عند مليك مقتدر {بِمَا صَبَرُوا}.
في البداية على أداء الأوامر وترك النواهي وفي الوسط على تبديل الأخلاق الذميمة بالأخلاق الحميدة وفي النهاية على إفناء الوجود الإنساني في الوجود الرباني. انتهى.
والصبر ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله.
قال بعض الكبار: من أدب العارف بالله تعالى إذا أصابه ألم أن يرجع إلى الله تعالى بالشكوى رجوع أيوب عليه السلام أدبًا مع الله وإظهارًا للعجز حتى لا يقاوم القهر الإلهي كما يفعله أهل الجهل بالله ويظنون أنهم أهل تسليم وتفويض وعدم اعتراف فجمعوا بين جهالتين {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} أي في الغرفة من جهة الملائكة {تَحِيَّةً} يعدى إلى المفعول الثاني بالباء وبنفسه كما في تاج المصادر يقال: لقيته كذا وبكذا إذا استقبلته به كما في المفردات.
والمعنى يستقبلون فيها بالتحية {وَسَلَامًا} أي: وبالسلام تحييهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات فإن التحية هي الدعاء بالتعمير والسلام هو الدعاء بالسلامة.
قال في المفردات: التحية أن يقال: حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء ويقال حيّا فلان فلانًا تحية إذا قال له ذلك وأصل التحية من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول حياة أو سبب حياة إما لدنيا وإما لآخرة ومنه التحيات والسلام والسلامة التعري عن الآفات الظاهرة والباطنة وليست السلامة الحقيقية إلا في الجنة لأن فيها بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعزا بلا ذل وصحة بلا سقم.
قال بعضهم: الفرق أن السلام سلامة العارفين في الوصال عن الفرقة والتحية روح تجلي حياة الحق الأزلي على أرواحهم وأشباحهم فيحيون حياة أبدية.
وقال بعضهم: ويلقون فيها تحية يحيون بها بحياة الله وسلامًا يسلمون به من الاستهلاك الكلي كما استحفظ إبراهيم عليه السلام من آفة البرد بالسلام بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من فاعل يجزون أي حال كونهم لا يموتون ولا يخرجون من الغرفة.
{حَسُنَتْ} الغرفة {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} من جهة كونها موضع قرار وإقامة وهو مقابل ساءت مستقرًا معنى ومثله إعرابًا.
فعلى العاقل أن يتهيأ لمثل هذه الغرفة العالية الحسنة بما سبق من الأعمال الفاضلة المستحسنة ولا يقع في مجرد الأماني والآمال فإن الأمنية كالموت بلا أشكال.
ومن طلب العلى جد ** في الأيام والليالي

قال بعض الكبار: من أراد أن يعرف بعض محبة الحق أو محبته له فلينظر إلى حاله الذي هو عليه من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والأئمة المجتهدين بعده فإن وجد نفسه على هداهم وأخلاقهم من الزهد والورع وقيام الليل على الدوام وفعل جميع المأمورات الشرعية وترك جميع المنهيات حتى صار يفرح بالبلايا والمحن وضيق العيش وينشرح لتحويل الدنيا ومناصبها وشهواتها عنه فليعلم أن الله يحبه وإلا فليحكم بأن الله يبغضه والإنسان على نفسه بصيرة.
وفي الإكثار من النوافل توطئة لمحبة الله تعالى قال عليه السلام حاكيًا عن الله تعالى: «ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما فرضت عليهم ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» ومن آثار محبته تعالى لعبده المطيع له إعطاء الغرفة العالية له في الجنة لعلو قدره ومنزلته عنده وإذا وقع التجلي الإلهي يكونون جلوسًا على مراتبهم فالأنبياء على المنابر والأولياء على الأسرة والعلماء بالله على الكراسي والمؤمنون المقلدون في توحيدهم على مراتب وذلك الجلوس كله يكون في جنة عدن عند الكثيب الأبيض وأما من كان موحدًا من طريق النظر في الأدلة فيكون جالسًا على الأرض وإنما نزل هذا عن الرتبة التي للمقلد في التوحيد لأنه تطرقه الشبه من تعارض الأدلة والمقالات في الله وصفاته فمن كان تقليده للشارع جزمًا فهو أوثق إيمانًا ممن يأخذ توحيده من النظر في الأدلة ويئولها.
واعلم أن الله تعالى إنما ذكر الغرفة في الحقيقة لأجل الطامعين الراغبين فيها وأما خواص عباده فليس لهم طمع في شيء سوى الله تعالى فلهم فوق الغرفة ونعيمها نعيم آخر تشير إليه التحية والسلام على تقدير أن يكونا من الله تعالى إذ لا يلتذ العاشق بشيء فوق ما يلتذ بمطالعة جمال معشوقه وسماع كلامه وخطابه حكي أنه كان لبعضهم جار نصراني فقال له: أسلم على أن أضمن لك الجنة فقال النصراني: الجنة مخلوقة لا خطر لها ثم ذكر له الحور والقصور فقال: أريد أفضل من هذا.
فقال: أسلم على أن أضمن لك رؤية الله تعالى فقال: الآن وجدت ليس شيء أفضل من رؤية الله فأسلم ثم مات فرآه في المنام على مركب في الجنة فقال له: أنت فلان قال: نعم قال: ما فعل الله بك قال: لما خرج روحي ذهب به إلى العرش فقال الله تعالى: آمنت بي شوقًا إلى لقائي فلك الرضى والبقاء.
{قُلْ} يا محمد للناس كافة {مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ} هذا بيان لحال المؤمنين منهم وما استفهامية محلها النصب على المصدر أو نافية وما يعبأ ما يبالي ولا يعتد كما في القاموس ما أعبأ بفلان ما أبالي وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ودعاؤكم مبتدأ خبره موجود أو واقع وهو مصدر مضاف إلى الفاعل بمعنى العبادة كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ} [الفرقان: 68] ونظائره والمعنى على الاستفهامية أي عبء واعتبار يعتبركم ربي ويبالي ويعتني بشأنكم لولا عبادتكم وطاعتكم له تعالى فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء.
وقال الزجاج: أي وزن ومقدار يكون لكم عند الله تعالى لولا عبادتكم له تعالى وذلك أن أصل العبء بالكسر والفتح بمعنى الثقل والحمل من أي شيء كان فمعنى ما أعبأ به في الحقيقة ما أرى له وزنًا وقدرًا وإليه جنح الإمام الراغب في الآية هذا.
وفي الآية معانٍ أخر والأظهر عند المحققين ما ذكرناه.
{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيان لحال الكفرة من الناس أي فقد كذبتم أيها الكفرة بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وخرجتم عن أن يكون لكم عن الله اعتناء بشأنكم واعتبار أو وزن ومقدار {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا} مصدر كالقتال أقيم مقام الفاعل كما يقام العدل في مقام العادل أي يكون جزاء التكذيب أو أثره وهو الأفعال المتفرعة عليه لازمًا يحيق بكم لا محالة حتى يكبكم في النار أي يصرعكم على وجوهكم كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها وإنما أضمر من غير ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره للتنبيه على أنه مما لا يكتنهه الوصف والبيان.
وعن بعضهم أن المراد بالجزاء جزاء الدنيا وهو ما وقع يوم بدر قتل منهم وأسر سبعون ثم اتصل به عذاب الآخرة لازمًا لهم.
واعلم أن الكفار أبطلوا الاستعداد الفطري وأفسدوا القوى بالإهمال فكان حالهم كحال النوى فإنه محال أن ينبت منه الإنسان تفاحًا فأصل الخلق والقوة لا يتغير ألبتة ولكن كما أن في النوى إمكان أن يخرج ما في قوته إلى الوجود وهو النخل بالتفقد والتربية وأن يفسد بالإهمال والترك، فكذا في الإنسان إمكان إصلاح القوة وإفسادها ولولا ذلك لبطل فائدة المواعظ والوصايا والوعد والوعيد والأمر والنهي ولا يجوز العقل أن يقال للعبد لم فعلت ولم تركت وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعًا وقد وجدناه في بعض البهائم ممكنًا فالوحشي قد ينتقل بالعادة إلى التأنس والجامح إلى السلاسة فالتوحيد والتصديق والطاعة أمر ممكن من الإنسان بإزالة الشرك والتكذيب والعصيان وقد خلق لأجلها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه.
يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فالحكمة الإلهية والمصلحة الربانية من الخلق هي الطاعة وأفعال الله تعالى وإن لم تكن معللة بالأغراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة.
قال الإمام الراغب: الإنسان في هذه الدار الدنيا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الناس سفر والدار دار ممرّ لا دار مقر وبطن أمه مبدأ سفره والآخرة مقصده وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه ويسار به سير السفينة براكبها كما قال الشاعر:
رأيت أخا الدنيا وإن كان ثاويًا ** أخا سفر يسري به وهو لا يدري

وقد دعى إلى دار السلام لكن لما كان الطريق إليها مشكلة مظلمة جعل الله لنا من العقل الذي ركبه فينا وكتبه التي أنزلها علينا نورًا هاديًا ومن عبادته التي كتبها علينا وأمرنا بها حصنًا واقيًا فمن قال هذه الطاعات جعلها الله عذابًا علينا من غير تأويل كفر فإن أوّل مراده بالتعب لا يكفر ولو قال: لو لم يفرض الله تعالى كان خيرًا لنا بلا تأويل كفر لأن الخير فيما اختاره الله إلا أن يئول ويريد بالخير الأهون والأسهل نسأل الله أن يسهلها علينا في الباطن والظاهر والأول والآخر. اهـ.